الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **
اعلم أن أسعد الخلق حالاً في الآخرة أقواهم حباً لله تعالى فإن الآخرة معناها القدوم على الله تعالى ودرك سعادة لقائه وما أعظم نعيم المحب إذا قدم على محبوبه بعد طول شوقه! وتمكن من دوام مشاهدته أبد الآباد من غير منغص ومكدر ومن غير رقيب ومزاحم ومن غير خوف انقطاع! إلا أن هذا النعيم على قدر قوة الحب فكلما ازدادت المحبة ازدادت اللذة وإنما يكتسب العبد حب الله تعالى في الدنيا وأصل الحب لا ينفك عنه مؤمن لأنه لا ينفك عن أصل المعرفة وأما قوة الحب واستيلاؤه حتى ينتهي إلى الاستهتار الذي يسمى عشقاً فذلك ينفك عنه الأكثرون وإنما يحصل ذلك بسببين: أحدهما قطع علائق الدنيا وإخراج حب غير الله من القلب فإن القلب مثل الإناء لا يتسع للخل مثلاً ما لم يخرج منه الماء " ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه " وكمال الحب في أن يحب الله عز وجل بكل قلبه. وما دام يلتفت إلى غيره فزاوية من قلبه مشغولة بغيره. فبقدر ما يشغل بغير الله ينقص منه حب الله وبقدر ما يبقى من الماء في الإناء ينقص من الخل المصبوب فيه. وإلى هذا التفريد والتجريد الإشارة بقوله تعالى: " قل الله ثم ذرهم في خوضهم " وبقوله تعالى: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " بل هو معنى قولك " لا إله إلا الله " أي معبود ولا محبوب سواه فكل محبوب فإنه معبود فإن العبد هو المقيد والمعبود هو المقيد به وكل محب مقيد بما يحبه. ولذلك قال الله تعالى: " أرأيت من اتخذ إلهه هواه " وقال صلى الله عليه وسلم: " أبغض إله عبد في الأرض الهوى " ولذلك قال عليه السلام: " من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة " ومعنى الإخلاص أن يخلص قلبه لله فلا يبقى فيه شرك لغير الله فيكون الله محبوب قلبه ومعبود قلبه ومقصود قلبه فقط ومن هذا حاله فالدنيا سجنه لأنها مانعة من مشاهدة محبوبه وموته خلاص من السجن وقدوم على المحبوب فما حال من ليس له إلا محبوب واحد وقد طال إليه شوقه وتمادى عنه حبسه فخلى من السجن ومكن من المحبوب وروح بالأمن أبد الآباد فأحد أسباب ضعف حب الله في القلوب قوة حب الدنيا ومنه حب الأهل والمال والولد والأقارب والعقار والدواب والبساتين والمنتزهات حتى إن المنفرح بطيب أصوات الطيور وروح نسم الأسحار ملتفت إلى نعيم الدنيا ومتعرض لنقصان حب الله تعالى بسببه فبقدر ما أنس بالدنيا فينقص أنسه بالله ولا يؤتى أحد من الدنيا شيئاً بقدره من الآخرة بالضرورة كما أنه لا يقرب الإنسان من المشرق إلا ويبعد بالضرورة من المغرب بقدره ولا يطيب قلب امرأته إلا ويضيق به قلبه ضرتها فالدنيا والآخرة ضرتان وهما كالمشرق والمغرب وقد انكشف ذلك لذوي القلوب انكشافاً أوضح من الإبصار بالعين وسبيل قلع حب الدنيا من القلب سلوك طريق الزهد وملازمة الصبر والانقياد إليهما بزمام الخوف والرجاء. فما ذكرناها من المقامات كالتوبة والصبر والزهد والخوف والرجاء هي مقدمات ليكتسب بها أحد ركني المحبة وهو تخلية القلب عن غير الله وأوله الإيمان بالله واليوم الآخر والجنة والنار ثم يتشعب منه الخوف والرجاء ويتشعب منهما التوبة والصبر عليهما. ثم ينجر ذلك إلى الزهد في الدنيا وفي المال والجاه وكل حظوظ الدنيا حتى يحصل من جميعه طهارة القلب عن غير الله فقط حتى يتسع بعده لنزول معرفة الله وحبه فكل ذلك مقدمات تطهير القلب وهو أحد ركني المحبة. وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: " الطهور شطر الإيمان " كما ذكرناه في أول كتاب الطهارة. السبب الثاني: لقوة المحبة قوة معرفة الله تعالى واتساعها واستيلاؤها على القلب وذلك بعد تطهير القلب من جميع شواغل الدنيا وعلائقها يجري مجرى وضع البذر في الأرض بعد تنقيتها من الحشيش وهو الشطر الثاني. ثم يتولد من هذا البذر شجرة المحبة والمعرفة وهي الكلمة الطيبة التي ضرب الله بها مثلاً حيث قال: " ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء " وإليها الإشارة بقوله تعالى " إليه يصعد الكلم الطيب " أي المعرفة " والعمل الصالح يرفعه " فالعمل الصالح كالجمال لهذه المعرفة وكالخادم وإنما العمل الصالح كله في تطهير القلب أولاً من الدنيا ثم إدامة طهارته فلا يراد العمل إلا لهذه المعرفة وأما العلم بكيفية العمل فيراد للعمل فالعلم هو الأول وهو الآخر وإنما الأول علم المعاملة وغرضه العمل وغرض المعاملة صفاء القلب وطهارته ليتضح فيه جلية الحق ويتزين بعلم المعرفة وهو علم المكاشفة ومهما حصلت هذه المعرفة تبعتها المحبة بالضرورة كما أن من كان معتدل المزاج إذا أبصر الجميل وأدركه بالعين الظاهرة أحبه ومال إليه ومهما أحبه حصلت اللذة فاللذة تبع المحبة بالضرورة والمحبة تبع المعرفة بالضرورة ولا يوصل إلى هذه المعرفة بعد انقطاع شواغل الدنيا من القلب إلا بالفكر الصافي والذكر الدائم والجد البالغ في الطلب والنظر المستمر في الله تعالى وفي صفاته وفي ملكوت سمواته وسائر مخلوقاته. والواصلون إلى هذه الرتبة ينقسمون إلى الأقوياء ويكون أول معرفتهم بالله تعالى ثم به يعرفون غيره. وإلى الضعفاء ويكون أول معرفتهم بالأفعال ثم يترقون منها إلى الفاعل. وإلى الأول الإشارة بقوله تعالى: " أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد " وبقوله تعالى: " شهد الله أنه لا إله إلا هو " ومنه نظر بعضهم حيث قيل له: بم عرفت ربك قال: عرفت ربي ولولا ربي لما عرفت ربي وإلى الثاني بقوله تعالى: " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " الآية. وبقوله عز وجل: " أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض " وبقوله تعالى: " قل انظروا ماذا في السموات والأرض " وبقوله تعالى: " الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير " وهذا الطريق هو الأسهل على الأكثرين وهو الأوسع على السالكين وإليه أكثر دعوة القرآن عند الأمر بالتدبر والتفكر والاعتبار والنظر في آيات خارجة عن الحصر. فإن قلت: كلا الطريقين مشكل فأوضح لنا منهما ما يستعان به على تحصيل المعرفة والتوصل به إلى المحبة فاعلم أن الطريق الأعلى هو الاستشهاد بالحق سبحانه على سائر الخلق فهو غامض والكلام فيه خارج عن حد فهم أكثر الخلق فلا فائدة في إيراده في الكتب وأما الطريق الأسهل الأدنى فأكثره غير خارج عن حد الأفهام وإنما قصرت الأفهام عنه لإعراضها عن التدبر واشتغالها بشهوات الدنيا وحظوظ النفس والمانع من ذكر هذا اتساعه وكثرته وانشعاب أبوابه الخارجة عن الحصر والنهاية إذ ما من ذرة من أعلى السموات إلى تخوم الأرضين إلا وفيها عجائب آيات تدل على كمال قدرة الله تعالى وكمال حكمته ومنتهى جلاله وعظمته وذلك مما لا يتناهى " قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي " فالخوض فيه انغماس في بحار علوم المكاشفة ولا يمكن أن يتطفل به على علوم المعاملة ولكن يمكن الرمز إلى مثال واحد على الإيجاز ليقع التنبيه لجنسه فنقول: أسهل الطريقين النظر إلى الأفعال فلنتكلم فيها ولنترك الأعلى ثم الأفعال الإلهية كثيرة فنطلب أقلها وأحقرها وأصغرها ولننظر في عجائبها فأقل المخلوقات هو الأرض وما عليها - أعني بالإضافة إلى الملائكة وملكوت السموات - فإنك إن نظرت فيها من حيث الجسم والعظم في الشخص فالشمس على ما ترى من صغر حجمها هي مثل الأرض مائة ونيفاً وستين مرة فانظر إلى صغر الأرض بالإضافة إليها ثم انظر إلى صغر الشمس بالإضافة إلى فلكها الذي هي مركوزة فيه فإنه لا نسبة لها إليه وهي في السماء الرابعة وهي صغيرة بالإضافة إلى ما فوقها من السموات السبع ثم السموات في الكرسي كخلقة في فلاة والكرسي في العرش كذلك فهذا نظر إلى ظاهر الأشخاص من حيث المقادير وما أحقر الأرض كلها بالإضافة إليها! بل ما أصغر الأرض بالإضافة إلى البحار! فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأرض في البحر كالاصطبل في الأرض " ومصداق هذا عرف بالمشاهدة والتجبرة وعلم أن المكشوف من الأرض عن الماء كجزيرة صغيرة بالإضافة إلى كل الأرض ثم انظر إلى الآدمي المخلوق من التراب - الذي هو جزء من الأرض - وإلى سائر الحيوانات وإلى صغره بالإضافة إلى الأرض ودع عنك جميع ذلك فأصغر ما نعرفه من الحيوانات البعوض والنحل وما يجري مجراه فانظر في البعوض على قدر صغره وتأمله بعقل حاضر وفكر صاف فانظر كيف خلقه الله تعالى على شكل الفيل الذي هو أعظم الحيوانات! إذ خلق له خرطوماً مثل خرطومه وخلق له شكله الصغير سائر الأعضاء كما خلقه للفيل بزيادة جناحين وانظر كيف قسم أعضاءه الظاهرة فأنبت جناحه وأخرج يده ورجله وشق سمعه وبصره ودبر في باطنه من أعضاء الغذاء وآلاته ما دبره في سائر الحيوانات وركب فيها من القوى الغاذية والجاذبة والدافعة والماسكة والهاضمة ما ركب في سائر الحيوانات هذا في شكله وصفاته ثم انظر إلى هدايته كيف هداه الله تعالى إلى غذائه وعرفه أن غذاءه دم الإنسان ثم انظر كيف أنبت له آلة الطيران إلى الإنسان! وكيف خلق له الخرطوم الطويل وهو محدد الرأس! وكيف هداه إلى مسام بشرة الإنسان حتى يضع خرطومه في واحد منها! ثم كيف قواه حتى يغرز فيه الخرطوم! وكيف علمه المص والتجرع للدم! وكيف خلق الخرطوم مع دقته مجوفاً حتى يجري فيه الدم الرقيق وينتهي إلى باطنه وينتشر في سائر أجزائه ويغذيه! ثم كيف عرفه أن الإنسان يقصده بيده فعلمه حيلة الهرب واستعداد آلته! وخلق له السمع الذي يسمع به خفيف حركة اليد وهي بعد بعيدة منه فيترك المص ويهرب! ثم إذا سكنت اليد يعود! ثم انظر كيف خلق له حدقتين حتى يبصر موضع غذائه فيقصده مع صغر حجم وجهه. وانظر إلى أن حدقة كل حيوان صغير لما لم تحمل حدقته الأجفان لصغره وكانت الأجفان مصقلة لمرآة الحدقة عن القذى والغبار - خلق للبعوض والذباب فتنظر إلى الذباب فتراه على الدوام يمسح حدقتيه بيديه. وأما الإنسان والحيوان الكبير فخلق لحدقتيه الأجفان حتى ينطبق أحدهما على الآخر وأطرافهما حادة فيجمع الغبار الذي يلحق الحدقة ويرميه إلى أطراف الأهداب وخلق الأهداب السود لتجمع ضوء العين وتعين على الإبصار وتحسن صورة العين وتشبكها عند هيجان الغبار فينظر من وراء شباك الأهداب واشتباكها يمنع دخول الغبار ولا يمنع الإبصار. وأما البعوض فخلق لها حدقتين مصقلتين من غير أجفان وعلمها كيفية التصقيل باليدين ولأجل ضعف أبصارها تراها تتهافت على السراج لأن بصره ضعيف فهي تطلب ضوء النهار فإذا رأى المسكين ضوء السراج بالليل ظن أنه في بيت مظلم وأن السراج كوة من البيت المظلم إلى الموضع المضيء فلا يزال يطلب الضوء ويرمي بنفسه إليه فإذا جاوزه ورأى الظلام ظن أنه لم يصب الكوة ولم يقصدها على السداد فيعود إليه مرة أخرى إلى أن يحترق ولعلك تظن أن هذا لنقصانها وجهلها فاعلم أن جهل الإنسان أعظم من جهلها بل صورة الآدمي في الإكباب على الشهوات الدنيا صورة الفراش في التهافت على النار إذ تلوح للآدمي أنوار الشهوات من حيث ظاهر صورتها ولا يدري أن تحتها السم الناقع القاتل فلا يزال يرمي نفسه عليها إلى أن ينغمس فيها ويتقيد بها ويهلك هلاكاً مؤبداً فليت كان جهل الآدمي كجهل الفراش! فإنها باغترارها بظاهر الضوء إن احترقت تخلصت في الحال والآدمي يبقى في النار أبد الآباد أو مدة مديدة ولذلك كان ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: " إني ممسك بحجزكم عن النار وأنتم تتهافتون فيها تهافت الفراش " فهذه لمعة عجيبة من عجائب صنع الله تعالى في أصغر الحيوانات وفيها من العجائب ما لو اجتمع الأولون والآخرون على الإحاطة بكنهه عجزوا عن حقيقته ولم يطلعوا على أمور جلية من ظاهر صورته فأما خفايا معاني ذلك فلا يطلع عليها إلا الله تعالى. ثم في كل حيوان ونبات أعجوبة وأعاجيب تخصه لا يشاركه فيها غيره فانظر إلى النحل وعجائبها وكيف أوحى الله تعالى إليها حتى اتخذت من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل وجعل أحدهما ضياءً وجعل الآخر شفاءً ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار واحترازها عن النجاحات والأقذار وطاعتها لواحد من جملتها هو أكبرها شخصاً وهو أميرها ثم ما سخر الله تعالى له أميرها من العدل والإنصاف بينها - حتى إنه ليقتل على باب المنفذ كل ما وقع منها على نجاسة - لقضيت منها عجباً آخر العجب إن كنت بصيراً في نفسك وفارغاً من هم بطنك وفرجك وشهوات نفسك في معاداة أقرانك وموالاة إخوانك ثم دع عنك جميع ذلك وانظر إلى بنائها بيوتها من الشمع واختيارها من جملة الأشكال الشكل المسدس فلا تبني بيتاً مستديراً ولا مربعاً ولا مخمساً بل مسدساً لخاصية في الشكل المسدس يقصر فهم المهندسين عن دركها وهو أن أوسع الأشكال وأحواها: المستديرة وما يقرب منها فإن المربع يخرج منه زوايا ضائعة وشكل النحل مستدير مستطيل فترك المربع حتى لا تضيع الزوايا فتبقى فارغة ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة فإن الأشكال المستديرة إذا جمعت لم تجتمع متراصة ولا شكل في الأشكال ذات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير ثم تتراص الجملة منه بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس وهذه خاصية هذه الشكل فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل على صغر جرمه ولطافة قده لطفاً به وعناية بوجوده وما هو محتاج إليه ليتهنأ بعيشه فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه!. فاعتبر بهذه اللمعة اليسيرة من محقرات الحيوانات ودع عنك عجائب ملكوت الأرض والسموات فإن القدر الذي بلغه فهمنا القاصر منه تنقضي الأعمار دون إيضاحه ولا نسبة لما أحاط به علمنا إلى ما أحاط به العلماء والأنبياء ولا نسبة لما أحاط به علم الخلائق كلهم إلى ما استأثر الله تعالى بعلمه بل كل ما عرفه الخلق لا يستحق أن يسمى علماً في جنب علم الله تعالى فبالنظر في هذا وأمثاله تزداد المعرفة الحاصلة بأسهل الطريقين وبزيادة المعرفة تزداد المحبة فإن كنت طالباً سعادة لقاء الله تعالى فانبذ الدنيا وراء ظهرك واستغرق العمر في الذكر الدائم والفكر اللازم فعساك تحظى منها بقدر يسير ولكن تنال بذلك اليسير ملكاً عظيماً لا آخر له. اعلم أن المؤمنين مشتركون في أصل الحب لاشتراكهم في أصل المحبة ولكنهم متفاوتون لتفاوتهم في المعرفة وفي حب الدنيا إذ الأشياء إنما تتفاوت بتفاوت أسبابه وأكثر الناس ليس لهم من الله تعالى إلا الصفات والأسماء التي قرعت سمعهم فتلقنوها وحفظوها وربما تخيلوا لها معاني يتعالى عنها رب الأرباب وربما لم يطلعوا على حقيقتها ولا تخيلوا لها معنى فاسداً بل آمنوا بها إيمان تسليم وتصديق واشتغلوا بالعمل وتركوا البحث وهؤلاء هم أهل السلامة من أصحاب اليمين والمتخيلون هم الضالون والعارفون بالحقائق هم المقربون. وقد ذكر الله حال الأصناف الثلاثة في قوله تعالى: " فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم " الآية. فإن كنت لا تفهم الأمور إلا بالأمثلة فلنضرب لتفاوت الحب مثالاً فنقول: أصحاب الشافعي مثلاً يشتركون في حب الشافعي - رحمه الله - الفقهاء منهم والعوام لأنهم مشتركون في معرفة فضله ودينه وحسن سيرته ومحامد خصاله ولكن العامي يعرف علمه مجملاً والفقيه يعرفه مفصلاً فتكون معرفة الفقيه به أتم وإعجابه به وحبه له أشد فإن من رأى تصنيف مصنف فاستحسنه وعرف به فضله أحبه لا محالة ومال إليه قلبه فإن رأى تصنيفاً آخراً أحسن منه وأعجب تضاعف لا محالة حبه لأنه تضاعفت معرفته بعلمه وكذلك يعتقد الرجل في الشاعر أنه حسن الشعر فيحبه فإذا سمع من غرائب شعره ما عظم فيه حذقه وصنعته ازداد به معرفة وازداد له حباً. وكذا سائر الصناعات والفضائل. والعامي قد يسمع أن فلاناً مصنف وأنه حسن التصنيف ولكن لا يدرى ما في التصنيف فيكون له معرفة مجملة ويكون له بحسبه ميل مجمل والبصير إذا فتش عن التصانيف على ما فيها من العجائب تضاعف حبه لا محالة لأن عجائب الصنعة والشعر والتصنيف تدل على كمال صفات الفاعل والمصنف والعالم بجملته صنع الله تعالى وتصنيفه والعامي يعلم ذلك ويعتقده: وأما البصير فإنه يطالع تفصيل صنع الله تعالى فيه حتى يرى في البعوض - مثلاً - من عجائب صنعه ما ينبهر به عقله ويتحير فيه لبه ويزداد بسببه لا محالة عظمة الله وجلاله وكمال صفاته في قلبه فيزداد له حباً وكلما ازداد على أعاجيب صنع الله إطلاعاً استدل على عظمة الله الصانع وجلاله وازداد به معرفة وله حباً. وبحر هذه المعرفة - أعني معرفة العجائب صنع الله تعالى - بحر لا ساحل له فلا جرم تفاوت أهل المعرفة في الحب لا حصر له ومما يتفاوت بسببه الحب اختلاف الأسباب الخمسة التي ذكرناها للحب فإنه من يحب الله مثلاً لكونه محسناً إليه منعماً عليه ولم يحبه لذاته ضعفت محبته إذ تتغير بتغير الإحسان فلا يكون حبه في حالة البلاء كحبه في حالة الرضا والنعماء. وأما من يحبه لذاته ولأنه مستحق للحب بسبب كماله وجماله ومجده وعظمته فإنه لا يتفاوت حبه بتفاوت الإحسان إليه. فهذا وأمثاله وهو سبب تفاوت الناس في المحبة. والتفاوت في المحبة هو السبب للتفاوت في سعادة الآخرة. ولذلك قال تعالى " وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً ". اعلم أن أظهر الموجودات وأجلاها هو الله تعالى وكان هذا يقتضي أن تكون معرفته أول المعارف وأسبقها إلى الأفهام وأسهلها على العقول وترى الأمر بالضد من ذلك فلا بد من بيان السبب فيه. وإنما قلنا إنه أظهر الموجودات وأجلاها لمعنى لا تفهمه إلا بمثال: وهو أنا إذا رأينا إنساناً يكتب أو يخيط مثلاً كان كونه حياً عندنا من أظهر الموجودات فحياته وعلمه وقدرته وإرادته للخياطة أجلى عندنا من سائر صفاته الظاهرة والباطنة إذ صفاته الباطنة كشهوته وغضبه وخلقه وصحته ومرضه وكل ذلك لا نعرفه وصفاته الظاهرة لا نعرف بعضها وبعضها نشك فيه كمقدار طوله واختلاف لون بشرته وغير ذلك من صفاته. أما حياته وقدرته وإرادته وعلمه وكونه حيواناً فإنه جلي عندنا من غير أن يتعلق حس البصر بحياته وقدرته وإرادته فإن هذه الصفات لا نحس بشيء من الحواس الخمس ثم لا يمكن أن نعرف حياته وقدرته وإرادته إلا بخياطته وحركته فلو نظرنا إلى كل ما في العالم سواه لم نعرف به صفته فما عليه إلا دليل واحد وهو مع ذلك جلي واضح ووجود الله تعالى وقدرته وعلمه وسائر صفاته يشهد له بالضرورة كل ما نشاهده وندركه بالحواس الظاهرة والباطنة من حجر ومدر ونبات وشجر وحيوان وسماء وأرض وكوكب وبحر ونار وهواء وجوهر وعرض بل أول شاهد عليه أنفسنا وأجسامنا وأوصافنا وتقلب أحوالنا وتغير قلوبنا وجميع أطوارنا في حركاتنا وسكناتنا وأظهر الأشياء في علمنا أنفسنا ثم محسوساتنا بالحواس الخمس ثم مدركاتنا بالعقل والبصيرة - وكل واحد من هذه المدركات له مدرك واحد وشاهد واحد ودليل واحد وجميع ما في العالم شواهد ناطقة وأدلة شاهدة بوجود خالقها ومدبرها ومصرفها ومحركها ودالة علمه وقدرته ولطفه وحكمته والموجودات المدركة لا حصر لها فإن كانت حياة الكاتب ظاهرة عندنا وليس لها يشهد إلا شاهد واحد وهو ما أحسسنا به من حركة يده فكيف لا يظهر ما لا يتصور في الوجود شيء داخل نفوسنا وخارجها وهو شاهد عليه وعلى عظمته وجلاله إذ كل ذرة فإنها تنادي بلسان حالها أنه ليس وجودها بنفسها ولا حركتها بذاتها وأنها تحتاج إلى موجد ومحرك لها يشهد بذلك أولاً تركيب أعضائنا وائتلاف عظامنا ولحومنا وأعصابنا ومنابت شعورنا وتشكل أطرافنا وسائر أجزائنا الظاهرة والباطنة فإنه نعلم أنها لم تأتلف بأنفسها كما نعلم أن يد الكاتب لم تتحرك بنفسها ولكن لما لم يبق في الوجود شيء مدرك ومحسوس ومعقول وحاضر وغائب إلا وهو شاهد ومعرف عظم ظهوره فانبهرت العقول ودهشت عن إدراكه. فإن ما تقصر عن فهمه عقولنا فله سببان: أحدهما خفاؤه نفسه وغموضه وذلك لا يخفى مثاله والآخر ما يتناهى وضوحه وهذا كما أن الخفاش يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار لا لخفاء النهار واستتاره ولكن لشدة ظهوره فإن بصر الخفاش ضعيف يبهره نور الشمس إذا أشرقت فتكون قوة ظهوره مع ضعف بصره سبباً لامتناع إبصاره فلا نرى شيئاً إلا إذا امتزج الضوء بالظلام وضعف ظهوره. فكذلك عقولنا ضعيفة وجمال الحضرة الإلهية في نهاية الإشراق والاستنارة وفي غاية الاستغراق والشمول حتى لم يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السموات والأرض فصار ظهوره سبب خفائه فسبحان من احتجب بإشراق نوره واختفى عن البصائر بظهوره ولا يتعجب من اختفاء ذلك بسبب الظهور فإن الأشياء تستبان بأضدادها وما عم وجوده حتى أنه لا ضد له عسر إدراكه فلو اختلفت الأشياء فدل بعضها دون بعض أدركت التفرقة على قرب ولما اشتركت في الدلالة على نسق واحد أشكل الأمر ومثاله: نور الشمس المشرق على الأرض فإنا نعلم أنه عرض من الأعراض يحدث في الأرض ويزول عند غيبة الشمس فلو كانت الشمس دائمة الإشراق لا غروب لها لكنا نظن أنه لا هيئة في الأجسام إلا ألوانها وهي السواد والبياض وغيرهما فإنا لا نشاهد في الأسود إلا السواد وفي الأبيض إلا البياض فأما الضوء فلا ندركه وحده ولكن لما غابت الشمس وأظلمت المواضع أدركنا تفرقة بين الحالين فعلمنا أن الأجسام كانت قد استضاءت بضوء واتصفت بصفة فارقتها عند الغروب فعرفنا وجود النور بعدمه وما كنا نطلع عليه لولا عدمه إلا بعسر شديد وذلك لمشاهدتنا الأجسام متشابهة غير مختلفة في الظلام والنور هذا مع أن النور أظهر المحسوسات إذ به تدرك سائر المحسوسات فما هو ظاهر في نفسه وهو مظهر لغيره انظر كيف تصور استبهام أمره بسبب ظهوره لولا طريان ضده فالله تعالى هو أظهر الأمور وبه ظهرت الأشياء كلها ولو كان له عدم أو غيبة أو تغير لانهدت السموات والأرض وبطل الملك والملكوت ولأدرك بذلك التفرقة بين الحالين ولو كان بعض الأشياء موجوداً به وبعضها موجوداً بغيره لأدركت التفرقة بين الشيئين الدلالة ولكن دلالته عامة في الأشياء على نسق واحد ووجوده دائم في الأحوال يستحيل خلافه فلا جرم أورثت شدة الظهور خفاء فهذا هو السبب في قصور الأفهام. وأما من قويت بصيرته ولم تضعف منته فإنه في حال اعتدال أمره لا يرى إلا الله تعالى ولا يعرف غيره يعلم أنه ليس في الوجود إلا الله. وأفعاله أثر من الآثار قدرته فهي تابعة له فلا وجود لها بالحقيقة ودونه وإنما الوجود للواحد الذي به وجود الأفعال كلها. ومن هذه حاله فلا ينظر في شيء من الأفعال إلا ويرى فيه الفاعل ويذهل عن الفعل من حيث إنه سماء وأرض وحيوان وشجر بل ينظر فيه من حيث أنه صنع الواحد الحق فلا يكون نظره مجاوزاً له إلى غيره كمن نظر في شعر إنسان أو خطه أو تصنيفه ورأى فيها الشاعر والمصنف ورأى آثاره من حيث أثره لا من حيث إنه حبر وعفص وزاج مرقوم على بياض فلا يكون قد نظر إلى غير المصنف وكل العالم تصنيف الله تعالى فمن نظر إليه من حيث إنه فعل الله وعرفه من حيث إنه فعل الله وأحبه من حيث إنه فعل الله لم يكن ناظراً إلا في الله ولا عارفاً إلا بالله ولا محباً إلا له وكان هو الموحد الحق الذي لا يرى إلا الله بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه بل من حيث إنه عبد الله فهذا الذي يقال فيه إنه فني في التوحيد وإنه فني عن نفسه. وإليه الإشارة بقول من قال: كنا بنا ففنينا عنا فبقينا بلا نحن. فهذه أمور معلومة عند ذوي البصائر أشكلت لضعف الأفهام عن دركها وقصور قدرة العلماء بها عن إيضاحها وبيانها بعبارة مفهمة موصلة للغرض إلى الأفهام أو باشتغالهم بأنفسهم واعتقادهم أن بيان ذلك لغيرهم مما لا يعنيهم فهذا هو السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله تعالى وانضم إليه أن المدركات كلها التي هي شاهدة على الله إنما يدركها الإنسان في الصبا عند فقد العقل ثم تبدو فيه غريزة العقل قليلاً قليلاً وهو مستغرق الهم بشهواته وقد أنس بمدركاته ومحسوساته وألفها فسقط وقعها عن قلبه بطول الأنس ولذلك إذا رأى على سبيل الفجأة حيواناً غريباً أو نباتاً غريباً أو فعلاً من أفعال الله تعالى خارقاً للعادة عجيباً انطلق لسانه بالمعرفة طبعاً فقال: " سبحان الله " وهو يرى طول النهار نفسه وأعضاؤه وسائر الحيوانات المألوفة وكلها شواهد قاطعة لا يحس بشهادتها لطول الأنس بها ولو فرض أكمه بلغ عاقلاً ثم انقشعت غشاوة عينه فامتد بصره إلى السماء والأرض والأشجار والنبات والحيوان دفعة واحدة على سبيل الفجأة لخيف على عقله أن ينبهر لعظم تعجبه من شهادة العجائب لخالقها. فهذا وأمثاله من الأسباب مع الانهماك في الشهوات هو الذي سد على الخلق سبيل الاستضاءة بأنوار المعرفة والسباحة في بحارها الواسعة فالناس في طلبهم معرفة الله كالمدهوش الذي يضرب به المثل إذا كان راكباً لحماره وهو يطلب حماره والجليات إذا صارت مطلوبة صارت معتاصة. فهذا سر هذا الأمر فليحقق. ولذلك قيل: فقد ظهرت فما تخفى على أحد إلا على أكمه لا يعرف القمرا لكن بطنت بما أظهرت محتجباً فكيف يعرف من بالعرف قد سترا
اعلم أن من أنكر حقيقة المحبة لله تعالى فلا بد وأن ينكر حقيقة الشوق إذ لا يتصور الشوق إلا إلى محبوب ونحن نثبت وجود الشوق إلى الله تعالى وكون العارف مضطراً إليه بطريق الاعتبار والنظر بأنوار البصائر وبطريق الأخبار والآثار أما الاعتبار فيكفي في إثباته ما سبق في إثبات الحب فكل محبوب يشتاق إليه في غيبته لا محالة فأما الحاصل فلا يشتاق إليه فإن الشوق طلب وتشوف إلى أمر والموجود لا يطلب. ولكن بيانه أن الشوق لا يتصور إلا إلى شيء أدرك من وجه ولم يدرك من وجه فأما ما لا يدرك أصلاً فلا يشتاق إليه فإن من لم ير شخصاً ولم يسمع وصفه ولا يتصور أن يشتاق إليه وما أدرك بكماله لا يشتاق إليه وكمال الإدراك بالرؤية فمن كان في مشاهدة محبوبه مداوماً للنظر إليه لا يتصور أن يكون له شوق ولكن الشوق إنما يتعلق بما أدرك من وجه ولم يدرك من وجه وهو من وجهين لا ينكشف إلا بمثال من المشاهدات. فنقول مثلاً: من غاب عنه معشوقه وبقي في قلبه خياله فيشتاق إلى استكمال خياله بالرؤية فلو انمحى عن قلبه ذكره وخياله ومعرفته حتى نسيه لم يتصور أن يشتاق إليه ولو رآه لم يتصور أن يشتاق في وقت الرؤية فمعنى شوقه تشوق نفسه إلى استكمال خياله فكذلك قد يراه في ظلمة بحيث لا ينكشف له حقيقة صورته فيشتاق إلى استكمال رؤيته وتمام الانكشاف في صورته بإشراق الضوء عليه. والثاني أن يرى وجه محبوبه ولا يرى شعره مثلاً ولا سائر محاسنه فيشتاق لرؤيته وإن لم يرها قط ولم يثبت في نفسه خيال صادر عن الرؤية ولكنه يعلم أن له عضواً وأعضاء جميلة ولم يدرك تفصيل جمالها بالرؤية فيشتاق إلى أن ينكشف له ما لم يره قط. والوجهان جميعاً متصوران في حق الله تعالى بل هما لازمان بالضرورة لكل العارفين فإن ما اتضح للعارفين من الأمور الإلهية - وإن كان في غاية الوضوح - فكأنه من وراء ستر رقيق فلا يكون متضحاً غاية الاتضاح بل يكون مشوباً بشوائب التخيلات فإن الخيالات لا تفتر في هذا العالم عن التمثيل والمحاكاة لجميع المعلومات وهي مكدرات للمعارف ومنغصات وكذلك ينضاف إليها شواغل الدنيا فإنما كمال الوضوح بالمشاهدة وتمام إشراق التجلي ولا يكون ذلك إلا في الآخرة وذلك بالضرورة يوجب الشوق فإنه منتهى محبوب العارفين. فهذا أحد نوعي الشوق وهو استكمال الوضوح فيما اتضح اتضاحاً ما. الثاني أن الأمور الإلهية لا نهاية لها وإنما ينكشف لكل عبد من العباد بعضها وتبقى أمور لا نهاية لها غامضة والعارف يعلم وجودها وكونها معلومة لله تعالى. ويعلم أن ما غاب عن علمه من المعلومات أكثر مما حضر فلا يزال متشوقاً إلى أن يحصل له أصل المعرفة فيما لم يحصل مما بقي من المعلومات التي لم يعرفها أصلاً لا معرفة واضحة ولا معرفة غامضة. والشوق الأول ينتهي في الدار الآخرة بالمعنى الذي يسمى رؤية ولقاء ومشاهدة ولا يتصور أن يسكن في الدنيا. وقد كان إبراهيم بن أدهم من المشتاقين فقال: قلت ذات يوم يا رب إن أعطيت أحداً من المحبين لك ما يسكن به قلبه قبل لقائك فأعطني ذلك فقد أضر بي القلق قال: فرأيت في النوم أنه أوقفني بين يديه وقال: يا إبراهيم أما استحييت مني أن تسألني أن أعطيك ما يسكن به قلبك قبل لقائي وهل يسكن المشتاق قبل لقاء حبيبه فقلت: يا رب تهت في حبك فلم أدر ما أقول فاغفر لي وعلمني ما أقول فقال: قل اللهم رضني بقضائك وصبرني على بلائك وأوزعني شكر نعمائك. فإن هذا الشوق يسكن في الآخرة. وأما الشوق الثاني فيشبه: أن لا يكون له نهاية لا في الدنيا ولا في الآخرة إذ نهايته أن ينكشف للعبد في الآخرة من جلال الله تعالى وصفاته وحكمته وأفعاله ما هو معلوم لله تعالى وهو محال لأن ذلك لا نهاية له. ولا يزال العبد عالماً بأنه بقي من الجمال والجلال ما لم يتضح له فلا يسكن قط شوقه لا سيما من يرى فوق درجته درجات كثيرة إلا أنه تشوق إلى استكمال الوصال مع حصول أصل الوصال فهو يجد لذلك شوقاً لذيذاً لا يظهر فيه ألم ولا يبعد أن تكون ألطاف الكشف والنظر متوالية إلى غير نهاية فلا يزال النعيم واللذة متزايداً أبد الآباد وتكون لذة ما يتجدد من لطائف النعيم شاغلة عن الإحساس بالشوق إلى ما لم يحصل وهذا بشرط أن يمكن حصول الكشف فيما لم يحصل فيه كشف في الدنيا أصلاً فإن كان ذلك غير مبذول فيكون النعيم واقفاً على حد لا يتضاعف ولكن يكون مستمراً على الدوام وقوله سبحانه وتعالى: " نورهم يسعى بين أيديهم وبإيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا " محتمل لهذا المعنى وهو أن ينعم عليه بإتمام النور مهما تزود من الدنيا أصل النور ويحتمل أن يكون المراد به إتمام النور في غير ما استنار في الدنيا استنارة محتاجة إلى مزيد الاستكمال والإشراق فيكون هو المراد بتمامه. وقوله تعالى: " انظرونا نقتبس من نوركم - قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً " يدل على أن الأنوار لا بد وأن يتزود أصلها في الدنيا ثم يزداد في الآخرة إشراقاً. فأما أن يتجدد نور فلا والحكم في هذا برجم الظنون مخطر ولم ينكشف لنا فيه بعد ما يوثق به فنسأل الله تعالى أن يزيدنا علماً ورشداً ويرينا الحق حقاً. فهذا القدر من أنوار البصائر كاشف لحقائق الشوق ومعانيه. وأما شواهد الأخبار والآثار فأكثر من أن تحصى فمما اشتهر من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: " اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك ". وقال أبو الدرداء لكعب: أخبرني عن أخص آية - يعني في التوراة - فقال: يقول الله تعالى: طال شوق الأبرار إلى لقائي وإني إلى لقائهم لأشد شوقاً. قال: ومكتوب إلى جانبها: من طلبني وجدني ومن طلب غيري لم يجدني. فقال أبو الدرداء: أشهد إني لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا. وفي أخبار داود عليه السلام: إن الله تعالى قال: يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب لمن أحبني وجليس لمن جالسني ومؤنس لمن أنس بذكري وصاحب لمن صاحبني ومختار لمن اختارني ومطيع لمن أطاعني ما أحبني عبد أعلم ذلك يقيناً من قلبه إلا قبلته لنفسي وأحببته حباً لا يتقدمه أحد من خلقي من طلبني بالحق وجدني ومن طلب غيري لم يجدني فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها ومصاحبتي ومجالستي وائنسوا بي أؤانسكم وأسارع إلى محبتكم فإني خلقت طينة أحبائي من طينة إبراهيم خليلي وموسى نجيي ومحمد صفيي وخلقت قلوب المشتاقين من نوري ونعمتها بجلالي. وروي عن بعض السلف: أن الله تعالى أوحى إلى بعض الصديقين: إن لي عباداً من عبادي يحبوني وأحبهم ويشتاقون إلي وأشتاق إليهم ويذكروني وأذكرهم وينظرون إلي وأنظر إليهم فإن حذوت طريقهم أحببتك وإن عدلت عنهم مقتك قال: يا رب وما علامتهم قال: يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه ويحنون إلى غروب الشمس كما يحن الطائر إلى وكره عند الغروب فإذا جنهم الليل واختلط الظلام وفرشت الفرش ونصبت الأسرة وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إلى أقدامهم وافترشوا إلى وجوههم وناجوني بكلامي وتملقوا إلي بإنعامي فبين صارخ وباك وبين متأوه وشاك وبين قائم وقاعد وبين راكع وساجد بعيني ما يتحملون من أجلي وبسمعي ما يشتكون من حبي أول ما أعطيهم ثلاث: أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم. والثانية: لو كانت السموات والأرض وما فيها في موازينهم لاستقللتها لهم. والثالثة: أقبل بوجهي عليهم فترى من أقبلت عليه يعلم أحد ما أريد أن أعطيه. وفي أخبار داود عليه السلام: إن الله تعالى أوحى إليه: يا داود إلى كم تذكر الجنة ولا تسألني الشوق إلي قال: يا رب من المشتاقون إليك قال: إن المشتاقين إلى الذين صفيتهم من كل كدر ونبهتهم بالحذر وخرقت من قلوبهم إلي خرقاً ينظرون إلي وإني لأحمل قلوبهم فأضعها على سمائي ثم أدعو نجباء ملائكتي فإذا اجتمعوا سجدوا لي فأقول: إني لم أدعكم لتسجدوا لي ولكني دعوتكم لأعرض عليكم قلوب المشتاقين إلي وأباهي بكم أهل الشوق إلي فإن قلوبهم لتضيء في سمائي لملائكتي كما تضيء الشمس لأهل الأرض يا داود إني خلقت قلوب المشتاقين من رضواني ونعمتها بنور وجهي فاتخذتهم لنفسي محدثي وجعلت أبدانهم موضع نظري إلى الأرض وقطعت من قلوبهم طريقاً ينظرون به إلي يزدادون في كل يوم شوقاً قال داود: يا رب أرني أهل محبتك فقال: يا داود ائت جبل لبنان فإن فيه أربعة عشر نفساً فيهم شبان وفيهم شيوخ وفيهم كهول فإذا أتيتهم فأقرئهم مني السلام وقل لهم: إن ربكم يقرئكم السلام ويقول لكم ألا تسألون حاجة فإنكم أحبائي وأصفيائي وأوليائي أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم. فأتاهم داود عليه السلام فوجدهم عن عين من العيون يتفكرون في عظمة الله عز وجل فلما نظروا إلى داود عليه السلام نهضوا ليتفرقوا عنه فقال داود: إني رسول الله إليكم جئتكم لأبلغكم رسالة ربكم فأقبلوا نحوه وألقوا أسماعهم نحو قوله وألقوا أبصارهم إلى الأرض فقال داود: إني رسول الله إليكم يقرئكم السلام ويقول لكم ألا تسألون حاجة ألا تنادوني أسمع صوتكم وكلامكم فإنكم أحبائي وأصفيائي وأوليائي أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم وأنظر إليكم في كل ساعة نظر الوالدة الشفيقة الرفيقة قال: فجرت الدموع على خدودهم فقال شيخهم: سبحانك سبحانك نحن عبيدك وبنو عبيدك فاغفر لنا ما قطع قلوبنا عن ذكرك فيما مضى من أعمارنا. وقال الآخر: سبحانك سبحانك نحن عبيدك وبنو عبيدك فامنن علينا بحسن النظر فيما بيننا وبينك. وقال الآخر: سبحانك سبحانك نحن عبيدك وبنو عبيدك أفنجترئ على الدعاء وقد علمت أنه لا حاجة لنا في شيء من أمورنا فأدم لنا لزوم الطريق إليك وأتمم بذلك المنة علينا. وقال الآخر: نحن مقصرون في طلب رضاك فأعنا علينا بجودك. وقال الآخر: من نطفة خلقتنا ومننت علينا بالتفكر في عظمتك أفيجترئ على الكلام من هو مشغل بعظمتك متفكر في جلالك وطلبتنا الدنو من نورك. وقال الآخر: كلت ألسنتنا عن دعائك لعظم شأنك وقربك من أوليائك وكثرة منتك على أهل محبتك. وقال الآخر: أنت هديت قلوبنا لذكرك وفرغتنا للاشتغال بك فاغفر لنا تقصيرنا في شكرك. وقال الآخر: قد عرفت حاجتنا إنما هي النظر إلى وجهك. وقال الآخر: كيف يجترئ العبد على سيده إذ أمرتنا بالدعاء بجودك - فهب لنا نوراً نهتدي به في الظلمات من أطباق السموات وقال آخر: ندعوك أن تقبل علينا وتديمه عندنا. وقال الآخر: نسألك تمام نعمتك فيما وهبت لنا وتفضلت به علينا. وقال الآخر: لا حاجة لنا في شيء من خلقك فامنن علينا بالنظر إلى جمال وجهك. وقال الآخر: أسألك من بينهم أن تعمي عيني عن النظر إلى الدنيا وأهلها وقلبي عن الاشتغال بالآخرة. وقال الآخر: قد عرفت تباركت وتعاليت أنك تحب أولياءك فامنن علينا باشتغال القلب بك عن كل شيء دونك. فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: قل لهم قد سمعت كلامكم وأجبتكم إلى ما أحببتم فليفارق كل واحد منكم صاحبه وليتخذ لنفسه سرباً فإني كاشف الحجاب فيما بيني وبينكم حتى تنظروا إلى نوري وجلالي. فقال داود: يا رب بم نالوا هذا منك قال: بحسن الظن والكف عن الدنيا وأهلها والخلوات بي ومناجاتهم لي وإن هذا منزل لا يناله إلا من رفض الدنيا وأهلها ولم يشتغل بشيء من ذكرها وفرغ قلبه لي واختارني على جميع خلقي فعند ذلك أعطف عليه وأفرغ نفسه وأكشف الحجاب فيما بيني وبينه حتى ينظر إلي نظر الناظر بعينه إلى الشيء وأريه كرامتي في كل ساعة وأقربه من نور وجهي إن مرض مرضته كما تمرض الوالدة الشفيقة ولدها وإن عطش أرويته وأذيقه طعم ذكري فإذا فعلت ذلك به يا داود عميت نفسه عن الدنيا وأهلها ولم أحببها إليه لا يفتر عن الاشتغال بي يستعجلني القدوم وأنا أكره أن أميته لأنه موضع نظري من بين خلقي لا يرى غيري ولا أرى غيره فلو رأيته يا داود وقد ذابت نفسه ونحل جسمه وتهشمت أعضاؤه وانخلع قلبه إذا سمع بذكرى أباهي به ملائكتي وأهل سمواتي يزداد خوفاً وعبادة وعزتي وجلالي يا داود لأقعدنه في الفردوس ولأشفين صدرهمن النظر إلي حتى يرضى وفوق الرضا. وفي أخبار داود أيضاً: قل لعبادي المتوجهين إلى محبتي ما ضركم إذا احتجبت عن خلقي ورفعت الحجاب فيما بيني وبينكم حتى تنظروا إلي بعيون قلوبكم وما ضركم ما زويت عنكم من الدنيا إذا بسطت ديني لكم وما ضركم مسخطة الخلق إذا التمستم رضائي. وفي أخبار داود أيضاً: إن الله تعالى أوحى إليه: تزعم أنك تحبني فإن كنت تحبني فأخرج حب الدنيا من قلبك فإن حبي وحبها لا يجتمعان في قلب يا داود خالص حبيبي مخالصة وخالط أهل الدنيا مخالطة ودينك فقلدنيه ولا تقلد دينك الرجال أما ما استبان لك مما وافق محبتي فتمسك به وأما ما أشكل عليك فقلدنيه حقاً على أني أسارع إلى سياستك وتقويمك وأكن قائدك ودليلك أعطيك من غير أن تسألني وأعينك على الشدائد وإني قد حلفت على نفسي أني لا أثيب إلا عبداً قد عرفت من طلبته وإرادته إلفاء كنفه بين يدي وأنه لا غنى به عني. فإذا كنت كذلك نزعت الذلة والوحشة عنك وأسكن الغنى قلبك فإني قد حلفت على نفسي أنه لا يطمئن عبد لي إلى نفسه ينظر إلى فعالها إلا وكلته إليها أضف الأشياء إلي لا تضاد عملك فتكون متعنياً ولا ينتفع بك من يصحبك ولا تجد لمعرفتي حداً فليس لها غاية ومتى طلبت مني الزيادة أعطك ولا تجد للزيادة مني حداً ثم اعلم بين إسرائيل أنه ليس بيني وبين أحد من خلقي نسب فلتعظم رغبتهم وإرادتهم عندي أبح لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ضعني بين عينيك وانظر إلي ببصر قلبك ولا تنظر بعينك التي في رأسك إلى الذين حجبت عقولهم فأمرجوها وسخت بانقطاع ثوابي عنها فإني حلفت بعزتي وجلالي لا أفتح ثوابي لعبد دخل في طاعتي للتجربة والتسويف تواضع لمن تعلمه ولا تطاول على المريدين فلو علم أهل محبتي منزلة المريدين عندي لكانوا لهم أرضاً يمشون عليها. يا داود لأن تخرج مريداً من سكرة هو فيها تستنقذه فأكتبك عندي جهيداً ومن كتبته عندي جهيداً لا تكون عليه وحشة ولا فاقة إلى المخلوقين يا داود تمسك بكلامي وخذ من نفسك لنفسك لا تؤتين منها فأحجب عنك محنتي لا تؤيس عبادي من رحمتي اقطع شهوتك لي فإنما أبحت الشهوات لضعفة خلقي ما بال الأقوياء أن ينالوا الشهوات فإنها تنقص حلاوة مناجاتي وإنما عقوبة الأقوياء عندي في موضع التناول أدنى ما يصل إليهم أن أحجب عقولهم عني فإني لم أرض الدنيا لحبيبي ونزهته عنها. يا داود لا تجعل بين وبينك عالماً يحجبك بسكره عن محبتي أولئك قطاع الطريق على عبادي المريدين استعن على ترك الشهوات بإدمان الصوم وإياك والتجربة في الإفطار فإن محبتي للصوم إدمانه. يا داود تحبب إلي بمعاداة نفسك امنعها الشهوات أنظر إليك وترى الحجب بيني وبينك مرفوعة إنما أداريك مداراة لتقوى على ثوابي إذا مننت عليك به وإني أحبسه عنك وأنت متمسك بطاعتي. أوحى الله تعالى إلى داود: يا داود لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقاً إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي. يا داود هذه إرادتي في المدبرين فكيف إرادتي في المقبلين علي يا داود أحوج ما يكون العبد إلي إذا استغنى عني وأرحم ما أكون بعبدي إذا أدبر عني وأجل ما يكون عندي إذا رجع إلي فهذه الأخبار ونظائرها مما لا يحصى تدل على إثبات المحبة والشوق والأنس وإنما تحقيق معناها ينكشف بما سبق. اعلم أن شواهد القرآن متظاهرة على أن الله تعالى يحب عبده فلا بد من معرفة معنى ذلك. ولنقدم الشواهد على محبته فقد قال الله تعالى: " يحبهم ويحبونه " وقال تعالى: " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً " وقال تعالى: " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " ولذلك رد سبحانه على من ادعى أنه حبيب الله فقال: " قل فلم يعذبكم بذنوبكم ". وقد روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا أحب الله تعالى عبداً لم يضره ذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. ثم تلا " إن الله يحب التوابين ". ومعناه أنه إذا أحبه تاب عليه قبل الموت فلم تضره الذنوب الماضية وإن كثرت كما لا يضر الكفر الماضي بعد الإسلام وقد اشترط الله تعالى للمحبة غفران الذنب فقال: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الإيمان إلا من يحب ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله ومن أكثر ذكر الله أحبه الله ". وقال عليه السلام: " قال الله تعالى لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به " الحديث. وقال زين بن أسلم: إن الله ليحب العبد حتى يبلغ من حبه له أن يقول: اعمل ما شئت فقد غفرت لك. وما ورد من ألفاظ المحبة خارج عن الحصر. وقد ذكرنا أن محبة العبد لله تعالى حقيقة وليست بمجاز إذ المحبة في وضع اللسان عبارة عن ميل النفس إلى الشيء الموافق والعشق عبارة عن الميل الغالب المفرط. وقد بينا أن الإحسان موافق للنفس والجمال موافق أيضاً وأن الجمال والإحسان تارة يدرك بالبصر وتارة يدرك بالبصيرة والحب يتبع كل واحد منهما فلا يختص بالبصر. فأما حب الله للعبد فلا يمكن أن يكون بهذا المعنى أصلاً بل الأسامي كلها إذا أطلقت على الله تعالى وعلى غير الله لم تنطلق عليهما بمعنى واحد أصلاً حتى إن اسم " الوجود " الذي هو أعم الأسماء اشتراكاً لا يشمل الخالق والخلق على وجه واحد بل كل ما سوى الله تعالى فوجوده مستفاد من وجود الله تعالى فالوجود التابع لا يكون مساوياً للوجود المتبوع. وإنما الاستواء في إطلاق الاسم نظيره اشتراك الفرس والشجر في اسم الجسم إذ معنى الجسمية وحقيقتها متشابهة فيهما من غير استحقاق أحدهما لأن يكون فيه أصلاً فليست الجسمية لأحدهما مستفادة من الآخر وليس كذلك اسم الوجود لله ولا لخلقه وهذا التباعد في سائر الأسامي أظهر كالعلم والإرادة والقدرة وغيرها فكل ذلك لا يشبه فيه الخالق الخلق وواضع اللغة إنما وضع هذه الأسامي أو لا للخلق فإن الخلق أسبق إلى العقول والأفهام من الخالق فكان استعمالها في حق الخالق بطريق الاستعارة والتجوز والنقل. والمحبة في وضع اللسان عبارة عن ميل النفس إلى موافق ملائم وهذا إنما يتصور في نفس ناقصة فإنها ما يوافقها فتستفيد بنيله كمالاً فتلتذ بنيله وهذا محال على الله تعالى فإن كل كمال وجمال وبهاء وجلال ممكن في حق الإلهية فهو حاضر وحاصل وواجب الحصول أبداً وأزلاً ولا يتصور تجدده ولا زواله فلا يكون له إلى غيره نظر من حيث إنه غيره بل نظره إلى ذاته وأفعاله فقط وليس في الوجود إلا ذاته وأفعاله ولذلك قال الشيخ أبو سعيد الميهني رحمه الله تعالى لما قرئ عليه قوله تعالى: " يحبهم ويحبونه " فقال: بحق يحبهم فإنه ليس يحب إلا نفسه على معنى أنه الكل وأن ليس في الوجود غيره فمن لا يحب إلا نفسه وأفعال نفسه وتصانيف نفسه فلا يجاوز حبه ذاته وتوابع ذاته من حيث هي متعلقة بذاته فهو إذن لا يحب إلا نفسه وما ورد من الألفاظ في حبه لعباده فهو مؤول ويرجع معناه إلى كشف الحجاب عن قلبه حتى يراه بقلبه وإلى تمكينه إياه من القرب منه وإلى إرادته ذلك به في الأزل فحبه لمن أحبه أزلي مهما أضيف إلى الإرادة الأزلية التي اقتضت تمكين هذا العبد من سلوك طرق هذا القرب وإذا أضيف إلى فعله الذي يكشف الحجاب عن قلب عبده فهو حادث يحدث بحدوث السبب المقتضي له كما قال تعالى: " لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه " فيكون تقربه بالنوافل سبباً لصفاء باطنه وارتفاع الحجاب عن قلبه وحصوله في درجة القرب من ربه فكل ذلك فعل الله تعالى ولطفه به فهو معنى حبه. ولا يفهم هذا إلا بمثال وهو أن الملك قد يقرب عبده من نفسه ويأذن له في كل وقت في حضور بساطه لميل الملك إليه إما لينصره بقوته أو ليستريح بمشاهدته أو ليستشيره في رأيه أو ليهيئ أسباب طعامه وشرابه فيقال: إن الملك يحبه ويكون معناه ميله إليه لما فيه من المعنى الموافق الملائم له وقد يقرب عبداً ولا يمنعه من الدخول عليه لا للانتفاع به ولا للاستنجاد به ولكن لكون العبد في نفسه موصوفاً من الأخلاق المرضية والخصال الحميدة بما يليق به أن يكون قريباً من حضرة الملك وافر الحظ من قربه مع أن الملك لا غرض له فيه أصلاً فإذا رفع الملك الحجاب بينه وبينه يقال: قد أحبه وإذا اكتسب من الخصال الحميدة ما اقتضى رفع الحجاب يقال: قد توصل وحبب نفسه إلى الملك. فحب الله للعبد إنما يكون بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول. وإنما يصح تمثيله بالمعنى الثاني بشرط أن لا يسبق إلى فهمك دخول تغير عليه عند تجدد القرب فإن الحبيب هو القريب من الله تعالى والقرب من الله في البعد من صفات البهائم والسباع والشياطين والتخلق بمكارم الأخلاق التي هي الأخلاق الإلهية فهو قرب بالصفة لا بالمكان ومن لم يكن قريباً فصار قريباً فقد تغير فربما يظن بهذا أن القرب لما تجدد فقد تغير وصف العبد والرب جميعاً إذ صار قريباً بعد أن لم يكن وهو محال في حق الله تعالى إذ التغير عليه محال بل لا يزال في نعوت الكمال والجلال على ما كان عليه في أزل الآزال. ولا ينكشف هذا إلا بمثال في القرب بين الأشخاص فإن الشخصين قد يتقاربان بتحركهما جميعاً وقد يكون أحدهما ثابتاً فيتحرك الآخر فيحصل القرب بتغير في أحدهما من غير تغير في الآخر بل القرب في الصفات أيضاً كذلك فإن التلميذ يطلب القرب من درجة أستاذه في كمال العلم وجماله والأستاذ واقف في كمال علمه غير متحرك بالنزول إلى درجة تلميذه والتلميذ متحرك مترق من حضيض الجهل إلى ارتفاع العلم فلا يزال دائباً في التغير والترقي إلى أن يقرب من أستاذه والأستاذ ثابت غير متغير فكذلك ينبغي أن يفهم ترقي العبد في درجات القرب فكلما صار أكمل صفة وأتم علماً وإحاطة بحقائق الأمور وأثبت قوة في قهر الشيطان وقمع الشهوات وأظهر نزاهة عن الرذائل صار أقرب من درجة الكمال ومنتهى الكمال لله وقرب كل واحد من الله تعالى بقدر كماله. نعم قد يقدر التلميذ على القرب من الأستاذ وعلى مساواته وعلى مجاوزته وذلك في حق الله محال فإنه لا نهاية لكماله وسلوك العبد في درجات الكمال متناه ولا ينتهي إلا إلى حد محدود فلا مطمع له في المساواة ثم درجات القرب تتفاوت تفاوتاً لا نهاية له أيضاً لأجل انتفاء النهاية عن ذلك الكمال. فإذن محبة الله للعبد تقريبه من نفسه بدفع الشواغل والمعاصي عنه وتطهير باطنه عن كدورات الدنيا ورفع الحجاب عن قلبه حتى يشاهده كأنه يراه بقلبه. وأما محبة العبد لله فهو ميله إلى درك هذا الكمال الذي هو مفلس عنه فاقد له فلا جرم يشتاق إلى ما فاته وإذا أدرك منه شيئاً يلتذ به والشوق والمحبة بهذا المعنى محال على الله تعالى. فإن قلت: محبة الله للعبد أمر ملتبس فبم يعرف العبد أنه حبيب الله فأقول: يستدل عليه بعلاماته. وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إذا أحب الله عبداً ابتلاه فإذا أحبه الحب البالغ اقتناه " قيل: وما اقتناه قال: " لم يترك له أهلاً ولا ماله " فعلامة محبة الله للعبد أن يوحشه من غيره ويحول بينه وبين غيره. قيل لعيسى عليه السلام: لم لا تشتري حماراً فتركبه فقال: أنا أعز على الله تعالى من أن يشغلني عن نفسه بحمار. وفي الخبر: " إذا أحب الله تعالى عبداً ابتلاه فإن صبر اجتباه فإن رضي اصطفاه ". وقال بعض العلماء: إذا رأيتك تحبه ورأيته يبتليك فاعلم أنه يريد أن يصافيك. وقال بعض المريدين لأستاذه: قد طولعت بشيء من المحبة فقال: يا بني هل ابتلاك بمحبوب سواء فآثرت عليه إياه قال: لا قال: فلا تطمع في المحبة فإنه لا يعطيها عبداً حتى يبلوه. وقد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: " إذ أحب الله تعالى عبداً جعل له واعظاً من نفسه وزاجراً من قلبه يأمره وينهاه " وقد قال: " إذا أراد الله تعالى بعبد خيراً بصره وأما الفعل الدال على كونه محبوباً فهو أن يتولى الله تعالى أمره ظاهره وباطنه سره وجهره فيكون هو المشير عليه والمدبر لأمره والمزين لأخلاقه والمستعمل لجوارحه والمسدد لظاهره وباطنه والجاعل همومه هماً واحداً والمبغض للدنيا في قلبه والموحش له من غيره والمؤنس له بلذة المناجاة في خلواته والكاشف له عن الحجب بينه وبين معرفته. فهذا وأمثاله هو علامة حب الله للعبد. فلنذكر الآن علامة محبة العبد لله تعالى فإنها أيضاً من علامات حب الله تعالى للعبد.
اعلم أن المحبة يدعيها كل أحد وما أسهل الدعوى وما أعز المعنى فلا ينبغي أن يغتر الإنسان بتلبيس الشيطان وخدع النفس مهما ادعيت محبة الله تعالى ما لم يمتحنها بالعلامات ولم يطالبها بالبراهين والأدلة. والمحبة شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء وثمارها تظهر في القلب واللسان والجوارح. وتدل تلك الآثار الفائضة منها على القلب والجوارح على المحبة دلالة الدخان على النار ودلالة الثمار على الأشجار. وهي كثيرة فمنها حب لقاء الحبيب بطريق الكشف والمشاهدة في دار السلام فلا يتصور أن يحب القلب محبوباً إلا ويحب مشاهدته ولقاءه وإذا علم أنه لا وصول إلا بالارتحال من الدنيا ومفارقتها بالموت فينبغي أن يكون محباً للموت غير فار منه فإن المحب لا يثقل عليه السفر عن وطنه إلى مستقر محبوبه ليتنعم بمشاهدته والموت مفتاح اللقاء وباب الدخول إلى المشاهدة. قال صلى الله عليه وآله وسلم: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ". وقال حذيفة عند الموت: حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم. وقال بعض السلف: ما من خصلة أحب إلى الله أن تكون في العبد بعد حب لقاء الله من كثرة السجود فقدم حب لقاء الله على السجود. وقد شرط الله سبحانه لحقيقته الصدق في الحب القتل في سبيل الله حيث قالوا إنا نحب الله فجعل القتل في سبيل الله وطلب الشهادة علامته فقال تعالى: " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً " وقال عز وجل: " يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ". وفي وصية أبي بكر لعمر رضي الله تعالى عنهما: الحق ثقيل وهو مع ثقله مرئ والباطل خفيف وهو مع خفته وبئ فإن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحب إليك من الموت وهو مدركك وإن ضيعت وصيتي لم يكن غائب أبغض إليك من الموت ولن تعجزه. ويروى عن إسحاق بن سعد بن أبي وقاص قال: حدثني أبي أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد: ألا ندعو الله فخلوا في ناحية فدعا عبد الله بن جحش فقال: يا رب إني أقسمت عليك إذا لقيت العدو غداً فلقني رجلاً شديداً بأسه شديداً حرده أقاتله فيك ويقاتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني ويبقر بطني فإذا لقيتك غداً قلت: يا عبد الله من جدع أنفك وأذنك فأقول: فيك يا رب وفي رسولك فتقول: صدقت. قال سعد: فلقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط قال سعيد بن المسيب: أرجو أن يبر الله آخر قسمه كما أبر أوله. وقد كان الثوري وبشر الحافي يقولان: لا يكره الموت إلا مريب لأن الحبيب على كل حال لا يكره لقاء حبيبه. وقال البويطي لبعض الزهاد: أتحب الموت فكأنه توقف فقال: لو كنت صادقاً لأحببته. وتلا قوله تعالى: " فتمنوا الموت إن كنتم صادقين " فقال الرجل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يتمنين أحدكم الموت " فقال: إنما قاله لضر نزل به لأن الرضا بقضاء الله تعالى أفضل من طلب الفرار منه. فإن قلت: من لا يحب الموت فهل يتصور أن يكون محباً لله فأقول: كراهة الموت قد تكون لحب الدنيا والتأسف على فرق الأهل والمال والولد وهذا ينافي كمال حب الله تعالى لأن الحب الكامل هو الذي يستغرق كل القلب ولكن لا يبعد أن يكون له مع حب الأهل والولد شائبة من حب الله تعالى ضعيفة فإن الناس متفاوتون في الحب. ويدل على التفاوت ما روي أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس لما زوج أخته فاطمة من سالم مولاه عاتبته قريش في ذلك وقالوا: أنكحت عقيلة من عقائل قريش لمولى فقال: والله لقد أنكحته إياها وإني لأعلم أنه خير منها فكان قوله ذلك أشد عليهم من فعله فقالوا: وكيف وهي أختك وهو مولاك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أراد أن ينظر إلى رجل يحب الله بكل قلبه فلينظر إلى سالم ". فهذا يدل على أن من الناس من لا يحب الله بكل قلبه فيحبه ويحب أيضاً غيره فلا جرم يكون نعيمه بلقاء الله عند القدوم عليه على قدر حبه وعذابه بفراق الدنيا عند الموت على قدر حبه لها. وأما السبب الثاني للكراهة: فهو أن يكون العبد في ابتداء مقام المحبة وليس يكره الموت وإنما يكره عجلته قبل أن يستعد للقاء الله فذلك لا يدل على ضعف الحب وهو كالمحب الذي وصله الخبر بقدوم حبيبه عليه فأحب أن يتأخر قدومه ساعة ليهيئ له داره ويعد له أسبابه فيلقاه كما يهواه فارغ القلب عن الشواغل خفيف الظهر عن العوائق فالكراهة بهذا السبب لا تنافي كمال الحب أصلاً وعلامته الدؤوب في العمل واستغراق الهم في الاستعداد. ومنها أن يكون مؤثراً ما أحبه الله تعالى على ما يحبه في ظاهره وباطنه فيلزم مشاق العمل ويجتنب إتباع الهوى ويعرض عنه دعة الكسل ولا يزال مواظباً على طاعة الله ومتقرباً إليه بالنوافل وطالباً عنده مزايا الدرجات كما يطلب المحب مزيد القرب في قلب محبوبه وقد وصف الله تعالى المحبين بالإيثار فقال: " يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " ومن بقي مستقراً على متابعة الهوى فمحبوبه ما يهواه بل يترك المحب هوى نفسه كما قيل: أريد وصاله ويريد هجري فأترك ما أريد لما يريد بل الحب إذا غلب قمع الهوى فلم يبق له تنعم بغير المحبوب كما روي أن زليخا لما آمنت وتزوج بها يوسف عليه السلام انفردت عنه وتخلت للعبادة وانقطعت إلى الله تعالى فكان يدعوها إلى فراشه نهاراً فتدفعه إلى الليل فإذا دعاها ليلاً سوفت به إلى النهار وقالت: يا يوسف إنما كنت أحبك قبل أن أعرفه فأما إذ عرفته فما أبقت محبته محبة لسواه وما أريد به بديلاً حتى قال لها: إن الله جل ذكره أمرني بذلك وأخبرني أنه مخرج منك ولدين وجاعلهما نبيين فقالت: أما إذا كان الله تعالى أمرك بذلك وجعلني طريقاً إليه فطاعة لأمر الله تعالى فعندها سكنت إليه. فإذن من أحب الله لا يعصيه ولذلك قال ابن المبارك فيه: تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في الفعال بديع وفي هذا المعنى: وأترك ما أهوى لما قد هويته فأرضى بما ترضى وإن سخطت نفسي وقال سهل رحمه الله تعالى: علامة الحب إيثاره على نفسك وليس كل من عمل بطاعة الله عز وجل صار حبيباً وإنما الحبيب من اجتنب المناهي وهو كما قال لأن محبته لله تعالى سبب محبة الله له كما قال تعالى: " يحبهم ويحبونه " وإذا أحبه الله تولاه ونصره على أعدائه وإنما عدوه نفسه وشهواته فلا يخذله الله ولا يكله إلى هواه وشهواته. ولذلك قال تعالى: " والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً ". فإن قلت: فالعصيان هل يضاد أصل المحبة فأقول: إنه يضاد كمالها ولا يضاد أصلها فكم من إنسان يحب نفسه وهو مريض ويحب الصحة ويأكل ما يضره مع العلم بأنه يضره وذلك لا يدل على عدم حبه لنفسه. ولكن المعرفة قد تضعف والشهوة وقد تغلب فيعجز عن القيام بحق المحبة. ويدل عليه ما روي أن نعيمان كان يؤتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل قليل فيحده في معصية يرتكبها إلى أن أتي به يوماً فحده فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: " لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " فلم يخرجه بالمعصية عن المحبة نعم تخرجه المعصية عن كمال الحب وقد قال بعض العارفين: إذا كان الإيمان في ظاهر القلب أحب الله تعالى حباً متوسطاً فإذا دخل سويداء القلب أحبه الحب البالغ وترك المعاصي. وبالجملة في دعوى المحبة خطر ولذلك قال الفضيل: إذا قيل لك أتحب الله تعالى فاسكت فإنك إن قلت: لا كفرت وإن قلت: نعم فليس وصفك وصف المحبين فاحذر المقت. ولقد قال بعض العلماء: ليس في الجنة نعيم أعلى من نعيم أهل المعرفة والمحبة ولا في جهنم عذاب أشد من عذاب من ادعى المعرفة والمحبة ولم يتحقق بشيء من ذلك. ومنها أن يكون مستهتراً بذكر الله تعالى لا يفتر عنه لسانه ولا يخلو عنه قلبه فمن أحب شيئاً أكثر بالضرورة من ذكره ما يتعلق به فعلامة حب الله حب ذكره وحب القرآن الذي هو كلامه وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب كل من ينسب إليه فإن من يحب إنساناً يحب كلب محلته. فالمحبة إذا قويت تعدت من المحبوب إلى كل ما يكتف بالمحبوب ويحيط به ويتعلق بأسبابه وذلك ليس شركة في الحب فإن من أحب رسول المحبوب لأنه رسوله وكلامه لأنه كلامه فلم يجاوز حبه إلى غيره بل هو دليل على كمال حبه ومن غلب حب الله على قلبه أحب جميع خلق الله لأنهم خلقه فكيف لا يحب القرآن والرسول وعباد الله الصالحين وقد ذكرنا تحقيق هذا في كتاب الأخوة والصحبة ولذلك قال تعالى: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لله تعالى ". وقال سفيان: من أحب من يحب الله تعالى فإنما أحب الله ومن أكرم من يكرم الله تعالى فإنما يكرم الله. وحكي عن بعض المريدين قال: كنت قد وجدت حلاوة المناجاة في سن الإرادة فأدمنت قراءة القرآن ليلاً ونهاراً ثم لحقتني فترة فانقطعت عن التلاوة قال: سمعت قائلاً يقول في المنام: إن كنت تزعم أنك تحبني فلم جفوت كتابي أما تدبرت ما فيه من لطيف عتابي قال: فانتبهت وقد أشرب في قلبي محبة القرآن فعاودت إلى حالي. وقال ابن مسعود: لا ينبغي أن يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله عز وجل وإن لم يكن يحب القرآن فليس يحب الله. وقال سهل رحمة الله تعالى عليه: علامة حب الله حب القرآن وعلامة حب الله وحب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة وعلامة حب السنة حب الآخرة وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا زاداً وبلغة إلى الآخرة. ومنها أن يكون أنسه بالخلوة ومناجاته لله تعالى وتلاوة كتابه فيواظب على التهجد ويغتنم هدء الليل وصفاء الوقت بانقطاع العوائق وأقل درجات الحب التلذذ بالخلوة بالحبيب والتنعم بمناجاته فمن كان النوم والاشتغال بالحديث ألذ عنده وأطيب من مناجاة الله كيف تصح محبته قيل لإبراهيم بن أدهم وقد نزل من الجبل: من أين أقبلت فقال: من الأنس بالله. وفي أخبار داود عليه السلام: لا تستأنس إلى أحد من خلقي فإني إنما أقطع عني رجلين رجل استبطأ ثوابي فانقطع ورجلاً نسيني فرضي بحاله وعلامة ذلك أن أكله إلى نفسه وأن أدعه في الدنيا حيران ومهما أنس بغير الله كان بقدر أنسه بغير الله مستوحشاً من الله تعالى ساقطاً عن درجة محبته. وفي قصة برخ - وهو العبد الأسود الذي استسقى به موسى عليه السلام - أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: إن برخاً نعم العبد هو لي إلا أن فيه عيباً قال: يا رب وما عيبه قال: يعجبه نسيم الأسحار فيسكن إليه ومن أحبني لم يسكن إلى شيء. وروي أن عابداً عبد الله تعالى في غيضة دهراً طويلاً فنظر إلى طائر وقد عشش في شجرة يأوي إليها ويصفر عندها فقال: لو حولت مسجدي إلى تلك الشجرة فكنت آنس بصوت هذا الطائر قال: ففعل فأوحى الله تعالى إلى نبي ذلك الزمان: قل لفلان العابد استأنست بمخلوق فإذن علامة المحبة كمال الأنس بمناجاة المحبوب وكمال التنعم بالخلوة به وكمال الاستيحاش من كل ما ينغص عليه الخلوة ويعوق عن لذة المناجاة. وعلامة الأنس مصير العقل والفهم كله مستغرقاً بلذة المناجاة كالذي يخاطب معشوقه ويناجيه وقد انتهت هذه اللذة ببعضهم حتى كان في صلاته ووقع الحريق في داره فلم يشعر به وقطعت رجل بعضهم بسبب علة أصابته وهو في الصلاة فلم يشعر به ومهما غلب الحب والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرة عينه يدفع بها جميع الهموم بل يستغرق الأنس والحب قلبه حتى لا يفهم أمور الدنيا ما لم تكرر على سمعه مراراً. مثل العاشق الولهان فإنه يكلم الناس بلسانه وأنسه في الباطن بذكر حبيبه. فالمحب من لا يطمئن إلا بمحبوبه. وقال قتادة في قوله تعالى: " الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب " قال: هشت إليه واستأنست به. وقال الصديق رضي الله تعالى عنه: من ذاق من خالص محبة الله شغله ذلك عن طلب الدنيا وأوحشه عن جميع البشر. وقال مطرف بن أبي بكر: المحب لا يسأم من حديث حبيبه. وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: قد كذب من ادعى محبتي إذا جنه الليل نام عني أليس وقال موسى عليه السلام: يا رب أين أنت فأقصدك فقال: إذا قصدت فقد وصلت. وقال يحيى بن معاذ: من أحب الله أبغض نفسه. وقال أيضاً: من لم تكن فيه ثلاث خصال فليس بمحب يؤثر كلام الله تعالى على كلام الخلق ولقاء الله تعالى على لقاء الخلق والعبادة على خدمة الخلق. ومنها أن لا يتأسف على ما يفوته مما سوى الله عز وجل ويعظم تأسفه على فوت كل ساعة خلت عن ذكر الله تعالى وطاعته فيكثر رجوعه عند الغفلات بالاستعطاف والاستعتاب والتوبة. قال بعض العارفين: إن لله عباداً أحبوه واطمأنوا إليه فذهب عنهم التأسف فلم يتشاغلوا بحظ أنفسهم إذ كان ملك مليكهم تاماً وما شاء كان فما كان لهم واصل إليهم وما فاتهم فبحسن تدبيره لهم. وحق المحب إذا رجع من غفلته في لحظته أن يقبل على محبوبه ويشتغل بالعتاب ويسأله ويقول: رب بأي ذنب قطعت برك عني وأبعدتني عن حضرتك وشغلتني بنفسي وبمتاعبة الشيطان فيستخرج ذلك منه صفاء ذكر ورقة قلب يكفر عنه ما سبق من الغفلة وتكون هفوته سبباً لتجدد ذكره وصفاء قلبه. ومهما لم ير المحب إلا المحبوب ولم ير شيئاً إلا منه لم يتأسف ولم يشك واستقبل الكل بالرضا وعلم أن المحبوب لم يقدر له إلا ما فيه خيرته ويذكر ومنها أن يتنعم بالطاعة ولا يستثقلها ويسقط عنه تعبها كما قال بعضهم: كابدت الليل عشرين سنة. ثم تنعمت به عشرين سنة. وقال الجنيد: علامة المحب دوام النشاط والدؤوب بشهوة تفتر بدنه ولا تفتر قلبه. وقال بعضهم: العمل على المحبة لا يدخله الفتور. وقال بعض العلماء: والله ما اشتفى محب لله من طاعته ولو حل بعظيم الوسائل. فكل هذا وأمثاله موجود في المشاهدات فإن العاشق لا يستثقل السعي في هوى معشوقه ويستلذ خدمته بقلبه وإن كان شاقاً على بدنه. ومهما عجز بدنه كان أحب الأشياء إليه أن تعاوده القدرة وأن يفارقه العجز حتى يشغل به فهكذا يكون حب الله تعالى فإن كل حب صار غالباً قهر لا محالة ما هو دونه. فمن كان محبوبه أحب إليه من الكسل ترك الكسل في خدمته وإن كان أحب إليه من المال ترك المال في حبه. وقيل لبعض المحبين - وقد كان بذل نفسه وماله حتى لم يبق له شيء - ما كان سبب حالك هذه في المحبة فقال: سمعت يوماً محباً وقد خلا بمحبوبه وهو يقول: أنا والله أحبك بقلبي كله وأنت معرض عني بوجهك كله! فقال له المحبوب: إن كنت تحبني فأيش تنفق علي قال: يا سيدي أملكك ما أملك ثم أنفق عليك روحي حتى تهلك فقلت: هذا خلق لخلق وعبد لعبد ومنها أن يكون مشفقاً على جميع عباد الله رحيماً بهم شديداً على جميع أعداء الله وعلى كل من يقارف شيئاً مما يكرهه كما قال الله تعالى: " أشداء على الكفار رحماء بينهم " ولا تأخذه لومة لائم ولا يصرفه عن الغضب لله صارف وبه وصف الله أولياؤه إذ قال الذين يكلفون بحبي كما يكلف الصبي بالشيء ويأوون إلى ذكري كما يأوي النسر إلى وكره ويغضبون لمحارمه كما يغضب النمر إذا حرد فإنه لا يبالي قل الناس أو كثروا فانظر إلى هذا المثال فإن الصبي إذا كلف بالشيء لم يفارقه أصلاً وإن أخذ منه لم يكن له شغل إلا البكاء والصياح حتى يرد إليه فإن نام أخذه معه في ثيابه فإذا انتبه عاد وتمسك به ومهما فارقه بكى ومهما وجده ضحك ومن نازعه فيه أبغضه ومن أعطاه أحبه. وأما النمر فإنه لا يملك نفسه عند الغضب حتى يبلغ من شدة غضبه أنه يهلك نفسه. فهذه علامات المحبة فمن تمت فيه هذه العلامات فقد تمت محبته وخلص حبه فصفا في الآخرة شرابه وعذب مشربه ومن امتزج بحبه حب غير الله تنعم في الآخرة بقدر حبه إذ يمزج شرابه بقدر من شراب المقربين كما قال تعالى في الأبرار: " إن الأبرار لفي نعيم " ثم قال: " يسقون من رحيق مختوم مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عيناً يشرب بها المقربون " فإذا طاب شراب الأبرار لشوب الشراب الصرف الذي هو للمقربين. والشراب عبارة عن جملة نعيم الجنان كما أن الكتاب عبر به عن جميع الأعمال فقال: " إن كتاب الأبرار لفي عليين " ثم قال: " يشهده المقربون " فكان أمارة علة كتابهم أنه ارتفع إلى حيث يشهده المقربون وكما أن الأبرار يجدون المزيد في حالهم ومعرفتهم بقربهم من المقربين ومشاهدتهم لهم فكذلك يكون حالهم في الآخرة " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة كما بدأنا أول خلق نعيده " وكما قال تعالى: " جزاء وفاقاً " أي وافق الجزاء أعمالهم فقوبل الخالص بالصرف من الشراب وقوبل المشوب بالمشوب وشوب كل شراب على قدر ما سبق من الشوب في حبه وأعماله " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره - وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم - إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها - وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " فمن كان حبه في الدنيا رجاءه لنعيم الجنة والحور العين والقصور مكن من الجنة ليتبوأ منها حيث يشاء فيلعب مع الولدان ويتمتع بالنسوان فهناك تنتهي لذته في الآخرة لأنه إنما يعطى كل إنسان في المحبة ما تشتهيه نفسه وتلذ عينه. ومن كان مقصده رب الدار ومالك الملك ولم يغلب عليه إلا حبه بالإخلاص والصدق أنزل " في مقعد صدق عند مليك مقتدر " فالأبرار يرتعون في البساتين ويتنعمون في الجنان مع الحور العين والولدان والمقربون ملازمون للحضرة عاكفون بطرفهم عليها يستحقرون نعيم الجنان بالإضافة إلى ذرة منها فقوم بقضاء شهوة البطن والفرج مشغولون وللمجالسة أقوام آخرون ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكثر أهل الجنة البله وعليون لذوي الألباب " ولما قصرت الأفهام عن درك معنى عليين عظم أمره فقال: " وما أدراك ما عليون " كما قال تعالى: " القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة ". ومنها أن يكون في حبه خائفاً متضائلاً تحت الهيبة والتعظيم وقد يظن أن الخوف يضاد الحب وليس كذلك بل إدراك العظمة يوجب الهيبة كما أن إدراك الجمال الحب ولخصوص المحبين مخاوف في مقام المحبة ليست لغيرهم وبعض مخاوفهم أشد من بعض فأولها خوف الإعراض وأشد منه خوف الحجاب وأشد منه خوف الإبعاد وهذا المعنى في سورة هود هو الذي شيب سيد المحبينإذ سمع قوله تعالى: " ألا بعداً لثمود - ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود " وإنما تعظم هيبة البعد وخوفه في قلب من ألف القرب وذاقه وتنعم به فحديث البعد في حق المبعدين يشيب سماعه أهل القرب في القرب ولا يحن إلى القرب من ألف البعد ولا يبكي لخوف البعد من لم يمكن من بساط القرب ثم خوف الوقوف وسلب المزيد فإنا قدمنا أن درجات القرب لا نهاية لها وحق العبد أن يجتهد في كل نفس حتى يزداد فيه قرباً. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من استوى يوماه فهو مغبون ومن كان يومه شراً من أمسه فهو ملعون ". وكذلك قال عليه السلام: " إنه ليغان على قلبي في اليوم والليلة حتى أستغفر الله سبعين مرة " وإنما كان استغفاره من القدم الأول فإنه كان بعداً بالإضافة إلى القدم الثاني ويكون ذلك عقوبة لهم على الفتور في الطريق والالتفات إلى غير المحبوب كما روي أن الله تعالى يقول: إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوات الدنيا على طاعتي أن أسلبه لذيذ مناجاتي. فسلب المزيد بسبب الشهوات عقوبة للعموم فأما الخصوص فيحجبهم عن المزيد مجرد الدعوى والعجب والركون إلى ما ظهر من مبادئ اللطف وذلك هو المكر الخفي الذي لا يقدر على الاحتراز منه إلا ذوو الأقدام الراسخة ثم خوف فوت ما لا يدرك بعد فوته سمع إبراهيم بن أدهم قائلاً يقول وهو في سياحة وكان على الجبل: كل شيء منك مغفو - ر سوى الإعراض عنا قد وهبنا لك ما فا - ت فهب لنا ما فات منا فاضطرب وغشي عليه فلم يفق يوماً وليلة طرأت عليه أحوال ثم قال: سمعت النداء من الجبل: يا إبراهيم كن عبداً فكنت عبداً واسترحت. ثم خوف السلو عنه فإن المحب يلازمه الشوق والطلب الحثيث فلا يفتر عن طلب المزيد ولا يتسلى إلا بلطف جديد فإن تسلى عن ذلك كان ذلك سبب وقوفه أو سبب رجعته والسلو يدخل عليه من حيث لا يشعر كما قد يدخل عليه الحب من حيث لا يشعر فإن هذه التقلبات لها أسباب خفية سماوية ليس في قوة البشر الإطلاع عليها فإذا أراد الله المكر به واستدراجه أخفى عنه ما ورد عليه من السلو فيقف مع الرجاء ويغتر بحسن النظر أو بغلبة الغفلة أو الهوى أو النسيان فكل ذلك من جنود الشيطان التي تغلب جنود الملائكة من العلم والعقل والذكر والبيان وكما أن من أوصاف الله تعالى ما يظهر فيقتضى هيجان الحب وهي أوصاف اللطف والرحمة والحكمة فمن أوصافه ما يلوح فيورث السلو كأوصاف الجبرية والعزة والاستغناء وذلك من مقدمات المكر والشقاء والحرمان. ثم خوف الاستبدال به بانتقال القلب من حبه إلى حب غيره وذلك هو المقت والسلو عنه مقدمة هذا المقام والإعراض والحجاب مقدمة السلو وضيق الصدر بالبر وانقباضه عن دوام الذكر وملاله لوظائف الأوراد أسباب هذه المعاني ومقدماتها. وظهور هذه الأسباب دليل على النقل عن مقلم الحب إلى مقام المقت نعوذ بالله منه وملازمة الخوف لهذه الأمور وشدة الحذر منها بصفاء المراقبة دليل صدق الحب. فإن من أحب شيئاً خاف لا محالة فقده فلا يخلو المحب عن خوف إذا كان المحبوب مما يمكن فواته وقد قال بعض العارفين: من عبد الله تعالى بمحبة من غير خوف هلك بالبسط والإدلال ومن عبده من طريق الخوف من غير محبة انقطع عنه بالبعد والاستيحاش ومن عبده من طريق المحبة والخوف أحبه الله تعالى فقربه ومكنه وعلمه فالمحب لا يخلو عن خوف والخائف لا يخلو عن محبة ولكن الذي غلبت عليه المحبة حتى اتسع فيها ولم يكن له من الخوف إلا يسير يقال هو في مقام المحبة ويعد من المحبين وكان شوب الخوف يسكن قليلاً من سكر الحب فلو غلب الحب واستولت المعرفة لم تثبت لذلك طاقة البشر فإنما الخوف يعدله ويخفف وقعه على القلب. فقد روي في بعض الأخبار: أن بعض الصديقين سأله بعض الأبدال أن يسأل الله تعالى أن يرزقه ذرة من معرفته ففعل ذلك فهام في الجبال وحار عقله ووله قلبه وبقي شاخصاً سبعة أيام لا ينتفع بشيء ولا ينتفع به شيء فسأل له الصديق ربه تعالى فقال: يا رب أنقصه من الذرة بعضها فأوحى الله تعالى إليه إنما أعطيناه جزءاً من مائة ألف جزء من المعرفة. وذلك أن مائة ألف عبد سألوني شيئاً من المحبة في الوقت الذي سألني هذا فأخرت إجابتهم إلى أن شفعت أنت لهذا فلما أجبتك فيما سألت أعطيتهم كما أعطيته فقسمت ذرة من المعرفة بين مائة ألف عبد فهذا ما أصابه من ذلك فقال: سبحانك يا أحكم الحاكمين أنقصه مما أعطيته! فأذهب الله عنه جملة الجزء وبقي معه عشر معشاره وهو جزء من عشرة آلاف جزء من مائة ألف جزء من ذرة فاعتدل خوفه وحبه ورجاؤه وسكن وصار كسائر العارفين وقد قيل في وصف حال العارف: غريب الوصف ذو علم غريب كان فؤاده زبر الحديد لقد عزت معانيه وجلت عن الأبصار إلا للشهيد يرى الأعياد في الأوقات تجري له في كل يوم ألف عيد وللأحباب أفراح بعيد ولا يجد السرور له بعيد وقد كان الجنيد رحمه الله ينشد أبياتاً يشير بها إلى أسرار أحوال العارفين وإن كان ذلك لا يجوز إظهاره وهي هذه الأبيات: سرت بأناس في الغيوب قلوبهم فخلوا بقرب الماجد المتفضل عراصاً بقرب الله في ظل قدسه تجول بها أرواحهم وتنقل مواردهم فيها على العز والنهي ومصدرهم عنها لما هو أكمل تروح بعز مفرد من صفاته وفي حلل التوحيد تمشي وترفل ومن بعد هذا ما تدق صفاته وما كتمه أولى لديه وأعدل سأكتم من علمي به ما يصونه وأبذل منه ما أرى الحق يبذل وأعطي عباد الله منه حقوقهم وأمنع منه ما أرى المنع يفضل وأمثال هذه المعارف التي إليها الإشارة لا يجوز أن يشترك الناس فيها ولا يجوز أن يظهرها من انكشف له شيء من ذلك لمن لم ينكشف له بل لو اشترك الناس فيها لخربت الدنيا فالحكمة تقتضي شمول الغفلة لعمارة الدنيا بل لو أكل الناس كلهم الحلال أربعين يوماً لخربت الدنيا لزهدهم فيها وبطلت الأسواق والمعايش بل لو أكل العلماء الحلال لاشتغلوا بأنفسهم ولوقفت الألسنة والأقلام عن كثير مما انتشر من العلوم ولكن الله تعالى فيما هو شر في الظاهر أسرار وحكم كما أن له في الخير أسراراً وحكماً ولا منتهى لحكمته كما لا غاية لقدرته. ومنها كتمان الحب واجتناب الدعوى والتقوى من إظهار الوجد والمحبة تعظيماً للمحبوب وإجلالاً له وهيبة منه وغيرة على سره فإن الحب سر من أسرار الحبيب ولأنه قد يدخل في الدعوى ما يتجاوز حد المعنى ويزيد عليه فيكون ذلك من الافتراء وتعظم العقوبة عليه في العقبى وتتعجل عليه البلوى في الدنيا نعم قد يكون للمحب سكرة في حبه حتى يدهش فيه وتضطرب أحواله فيظهر عليه حبه فإن وقع ذلك عن غير تمحل أو اكتساب فهو معذور لأنه مقهور وربما تشتعل من الحب نيرانه فلا يطاق سلطانه وقد يفيض القلب به فلا يندفع فيضانه. فالقادر على الكتمان يقول: وقالوا: قريب قلت: ما أنا صانع بقرب شعاع الشمس لو كان في حجري والعاجز عنه يقول: يخفى فيبدي الدمع أسراره ويظهر الوجد عليه النفس ويقول أيضاً: ومن قلبه مع غيره كيف حاله ومن سره في جفنه كيف يكتم وقد قال بعض العارفين: أكثر الناس من الله بعداً أكثرهم إشارة به. كأنه أراد: من يكثر التعريض به في كل شيء ويظهر التصنع بذكره عند كل أحد فهو ممقوت عند المحبين والعلماء بالله عز وجل. ودخل ذو النون: المصري على بعض إخوانه - ممن كان يذكر المحبة - فرآه مبتلى ببلاء فقال: لا يحبه من وجد ألم ضره! فقال الرجل: لكني أقول لا يحبه من لم يتنعم بضره فقال ذو النون: ولكن أقول: لا يحبه من شهر نفسه بحبه فقال الرجل: أستغفر الله وأتوب إليه. فإن قلت: المحبة منتهى المقامات وإظهارها إظهار للخير فلماذا يستنكر فاعلم أن المحبة محمودة وظهورها محمود أيضاً وإنما المذموم التظاهر بها لما يدخل فيها من الدعوى والاستكبار وحق المحب أن ينم على حبه الخفي أفعاله وأحواله دون أقواله وأفعاله. وينبغي أن يظهر حبه من غير قصد منه إلى إظهار الحب ولا إلى إظهار الفعل الدال على الحب بل ينبغي أن يكون قصد المحب إطلاع الحبيب فقط. فأما إرادته إطلاع غيره فشرك في الحب وقادح فيه كما ورد في الإنجيل: إذا تصدقت فتصدق بحيث لا تعلم شمالك يمينك. فالذي يرى الخفيات يجزيك علانية وإذا صمت فاغسل وجهك وادهن رأسك لئلا يعلم بذلك غير ربك. فإظهار القول والفعل كله مذموم إلا إذا غلب سكر الحب فانطلق اللسان واضطربت الأعضاء فلا يلام فيه صاحبه. حكي أن رجلاً رأى من بعض المجانين ما استجهله فيه فأخبر بذلك معروفاً الكرخي رحمه الله فتبسم ثم قال: يا أخي له محبون صغار وكبار وعقلاء ومجانين! فهذا الذي رأيته من مجانينهم. ومما يكره: التظاهر بالحب بسبب أن المحب إن كان عارفاً - وعرف أحوال الملائكة في حبهم الدائم وشوقهم اللازم الذي به يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون - لاستنكف من نفسه ومن إظهار حبه وعلم قطعاً أنه من أخس المحبين في مملكته وأن حبه أنقص من حب كل محب لله. قال بعض المكاشفين من المحبين: عبدت الله تعالى ثلاثين سنة بأعمال القلوب والجوارح على بذل المجهود واستفراغ الطاقة حتى ظننت أن لي عند الله شيئاً فذكر أشياء من مكاشفات آيات السموات في قصة طويلة قال في آخرها: فبلغت صفاً من الملائكة بعدد جميع ما خلق الله من شيء فقلت: من أنتم فقالوا: نحن المحبون لله عز وجل نعبده ههنا منذ ثلاثمائة ألف سنة ما خطر على قلوبنا قط سواء ولا ذكرنا غيره قال: فاستحييت من أعمالي فوهبتها لمن حق عليه الوعيد تخفيفاً عنه في جهنم. فإذن من عرف نفسه عرف ربه واستحيا منه حق الحياء خرس لسانه عن التظاهر بالدعوى. نعم يشهد على حبه حركاته وسكناته وإقدامه وإحجامه وتردداته كما حكي عن الجنيد أنه قال: مرض أستاذنا السري رحمه الله فلم نعرف لعلته دواء ولا عرفنا لها سبباً. فوصف لنا طبيب حاذق فأخذ قارورة مائه فنظر إليها الطبيب وجعل ينظر إليه ملياً ثم قال لي: أراه بول عاشق! قال الجنيد: فصعقت وغشي علي ووقعت القارورة من يدي ثم رجعت إلى السري فأخبرته فتبسم قال: قاتله الله ما أبصره! قلت: يا أستاذ وتبين المحبة في البول! قال: نعم. وقد قال السري مرة: لو شئت أقول: ما أيبس جلدي على عظمي ولا سل جسمي إلا حبه! ثم غشي عليه. وتدل الغشية على أنه أفصح في غلبة الوجد ومقدمات الغشية. فهذه مجامع علامات الحب وثمراته. ومنها الأنس والرضا كما سيأتي.
وبالجملة جميع محاسن الدين ومكارم الأخلاق ثمرة الحب وما لا يثمره الحب فهو إتباع الهوى وهو من رذائل الأخلاق. نعم قد يحب الله لإحسانه إليه وقد يحبه لجلاله وجماله وإن لم يحسن إليه. والمحبون لا يخرجون عن هذين القسمين ولذلك قال الجنيد: الناس في محبة الله تعالى عام وخاص فالعوام نالوا ذلك بمعرفتهم في دوام إحسانه وكثرة نعمه فلم يتمالكوا أن أرضوه إلا أنهم تقل محبتهم وتكثر على قدر النعم والإحسان فأما الخاصة فنالوا المحبة بعظم القدر والقدرة والعم والحكمة والتفرد بالملك. ولما عرفوا صفاته الكاملة وأسماءه الحسنى لم يمتنعوا أن أحبوه إذ استحق عندهم المحبة بذلك لأنه أهل لها ولو أزال عنهم جميع النعم نعم من الناس من يحب هواه. وعدو الله إبليس - وهو مع ذلك يلبس على نفسه بحكم الغرور والجهل - فيظن أنه محب لله عز وجل وهو الذي فقدت فيه هذه العلامات أو يلبس بها نفاقاً ورياءً وسمعةً وغرضه عاجل حظ الدنيا وهو يظهر من نفسه خلاف ذلك كعلماء السوء وقراء السوء أولئك بغضاء الله في أرضه. وكان سهل إذا تكلم مع إنسان قال: يا دوست - أي يا حبيب - فقيل له: قد لا يكون حبيباً فكيف تقول هذا فقال في أذن القائل سراً: لا يخلو إما أن يكون مؤمناً أو منافقاً: فإن كان مؤمناً فهو حبيب الله عز وجل وإن كان منافقاً فهو حبيب إبليس وقد قال أبو تراب التخشبي - في علامات المحبة - أبياتاً: لا تخدعن فللحبيب دلائل ولديه من تحف الحبيب وسائل منها تنعمه بمر بلائه وسروره في كل ما هو فاعل ومن الدلائل أي ترى من عزمه طوع الحبيب وإن ألح العاذل ومن الدلائل أن يرى متبسماً والقلب فيه من الحبيب بلابل ومن الدلائل أن يرى متفهماً لكلام من يحظى لديه السائل ومن الدلائل أن يرى متقشفاً متحفظاً من كل ما هو قائل وقال يحيى بن معاذ: ومن الدلائل أن تراه مشمراً في خرقتين على شطوط الساحل ومن الدلائل حزنه ونحيبه جوف الظلام فما له من عاذل ومن الدلائل أن تراه مسافراً نحو الجهاد وكل فعل فاضل ومن الدلائل زهده فيما يرى من دار ذل والنعيم الزائل ومن الدلائل أن تراه باكياً أن قد رآه على قبيح فعائل ومن الدلائل أن تراه مسلماً كل الأمور إلى المليك العادل ومن الدلائل أن تراه راضياً بمليكه في كل حكم نازل قد ذكرنا أن الأنس والخوف والشوق من آثار المحبة إلا أن هذه آثار مختلفة على المحب بحسب نظره وما يغلب عليه في وقته فإذا غلب عليه التطلع من وراء حجب الغيب إلى منتهى الجمال واستشعر قصوره عن الإطلاع على كنه الجلال انبعث القلب إلى الطلب وانزعج له وهاج إليه وتسمى هذه الحالة في الانزعاج شوقاً وهو بالإضافة إلى أمر غائب وإذا غلب عليه الفرح بالقرب ومشاهدة الحضور بما هو حاصل من الكشف وكان نظره مقصوراً على مطالعة الجمال الحاضر المكشوف غير ملتفت إلى ما لم يدركه بعد استبشر القلب بما يلاحظه فيسمى استبشاره أنساً وإن كان نظره إلى صفات العز والاستغناء وعدم المبالاة وخطر إمكان الزول والبعد تألم القلب بهذا الاستشعار فيسمى تألمه خوفاً. وهذه الأحوال تابعة لهذه الملاحظات والملاحظات تابعة لأسباب تقتضيها لا يمكن حصرها فالأنس معناه استبشار القلب فرحه بمطالعة الجمال حتى إنه إذا غلب وتجرد عن ملاحظة ما غاب عنه وما يتطرق إليه من خطر الزوال عظم نعيمه ولذته ومن هنا نظر بعضهم حيث قيل له: أنت مشتاق فقال: لا إنما الشوق إلى غائب فإذا كان الغائب حاضراً فإلى من يشتاق وهذا الكلام مستغرق بالفرح بما ناله غير ملتفت إلى ما بقي في الإمكان من مزايا الألطاف. ومن غلب عليه حال الأنس لم تكن شهوته إلا في الانفراد والخلوة كما حكي أن إبراهيم بن أدهم نزل من الجبل فقيل له: من أين أقبلت فقال: من الأنس بالله وذلك لأن الأنس بالله يلازمه التوحش من غير الله بل كل ما يعوق عن الخلوة فيكون من أثقل الأشياء على القلب كما روي أن موسى عليه السلام لما كلمه ربه مكث دهراً لا يسمع كلام أحد من الناس إلا أخذه الغثيان لأن الحب يوجب عذوبة كلام المحبوب وعذوبة ذكره فيخرج من القلب عذوبة ما سواه ولذلك قال بعض الحكماء في دعائه: يا من آنسني بذكره وأوحشني من خلقه وقال الله عز وجل لداود عليه السلام: كن لي مشتاقاً وبي متأنساً ومن سواي مستوحشاً. وقيل لرابعة: بم نلت هذه المنزلة قالت: بتركي ما لا يعنيني وأنسي بمن لم يزل. وقال عبد الواحد بن زيد: مررت براهب فقلت له: يا راهب لقد أعجبتك الوحدة فقال: يا هذا لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك الوحدة رأس العبادة فقلت: يا راهب ما أقل ما تجده في الوحدة قال: الراحة من مداراة الناس والسلامة من شرهم قلت يا راهب: متى يذوق العبد حلاوة الأنس بالله تعالى قال: إذا صفا الود وخلصت المعاملة قلت: ومتى يصفو الود قال: إذا اجتمع الهم فصار هماً واحداً في الطاعة. وقال بعض الحكماء: عجباً للخلائق كيف أرادوا بك بدلاً عجباً للقلوب كيف استأنست بسواك عنك. فإن قلت: فما علامة الأنس فاعلم أن علامته الخاصة ضيق الصدر من معاشرة الخلق والتبرم بهم واستهتاره بعذوبة الذكر فإن خالط فهو كمنفرد في جماعة ومجتمع في خلوة وغريب في حضر وحاضر في سفر وشاهد في غيبة وغائب في حضور مخالط بالبدن منفرد بالقلب مستغرق بعذوبة الذكر كما قال علي كرم الله وجهه في وصفهم: هم قوم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعر المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه فهذا معنى الأنس بالله وهذه علامته وهذه شواهده. وقد ذهب بعض المتكلمين إلى إنكار الأنس والشوق والحب لظنه أن ذلك يدل على التشبيه وجهله بأن جمال المدركات بالبصائر أكمل من جمال المبصرات ولذة معرفتها أغلب على ذوي القلوب ومنهم أحمد بن غالب يعرف بغلام الخليل أنكر على الجنيد وعلى أبي الحسن النوري والجماعة حديث الحب والشوق والعشق حتى أنكر بعضهم مقام الرضا وقال: ليس إلا الصبر فأما الرضا فغير متصور. وهذا كلام ناقص قاصر لم يطلع من مقامات الدين إلا على القشور فظن أنه لا وجود إلا للقشر فإن المحسوسات وكل ما يدخل في الخيال من طريق الدين قشر مجرد ووراءه اللب المطلوب فمن لم يصل من الجوز إلا إلى قشره يظن أن الجوز خشب كله ويستحيل الأنس بالله لا يحويه بطال وليس يدركه بالحول محتال والآنسون رجال كلهم نجب وكلهم صفوة لله عمال
|